اختلف كثير من الكتاب والمؤرخين على عصر محمد علي الذي حكم مصر منذ 1805 حتى 1849م ، ورغم أن المؤرخين أجمعوا على دوره في تأسيس مصر الحديثة، وتكوينه الحكومة المدنية، وتأسيسه للاقتصاد الوطني والزراعة ونظم الري، وفتوحاته وغزواته العسكرية في فلسطين والشام، إلا أن ثمة جدلاً لا يزال محتدماً بين مؤيد ومعارض، وتبقى ذكرى توليه حكم مصر في التاسع من يوليو 1805 مناسبة للوقوف على حقيقة هذا العصر الهام .
ولد محمد على باشا بمدينة قولة إحدي مدن اليونان عام 1769 م وكان أبوه إبراهيم أغا رئيس الحرس المختص بحراسة الطرق ببلده وكان له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم غير محمد على، وقد مات أبوه وعاش يتيما لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره فكفله عمه طوسون الذى توفي فكفله صديق والده.
عندما بلغ محمد أشده انتظم فى سلك الجهادية وسرعان ما ظهرت شجاعته ثم تزوج من إحدي قريبات متصرف قولة وكانت واسعة الثراء وأنجب منها إبراهيم وطوسون وإسماعيل وتفرغ للتجارة وخاصة تجارة الدخان إلا أنه سرعان ما عاد للحياة العسكرية وذلك عندما أغار نابليون بونابرت على مصر وشرع الباب العالي أو تركيا فى تعبئة جيوشها انضم محمد على إلى كتيبة مدينة قولة التي رست في ساحل أبو قير بالإسكندرية، وهكذا جاء محمد على إلى مصر واشترك فى المعارك الأخيرة التى دارت بين الإنجليز والأتراك من جانب والفرنسيين من جانب أخر.
وقد ظل محمد على بمصر وشهد انتهاء الحملة الفرنسية بها وفى أثناء ذلك كان قد رقي إلى مرتبة كبار الضباط فنال رتبة بكباشي قبل جلاء الفرنسيين ثم رقاه خسرو باشا إلى رتبة " سر جشمه " أو لواء، وكان فى ذلك الوقت الصراع دائرا فى مصر على السلطة، كما أن الحرب بين المماليك والأتراك قد اشتدت، فبدأ محمد على أن يدبر لنفسه خطة، وهى التودد إلى الشعب المصري واستمالة زعماؤه للوصول إلى قمة السلطة وخاصة بعد ثورة الشعب ضد المماليك فى مارس سنة 1804 م من كثرة وقوع المظالم وزيادة الضرائب على الشعب المصري.
*حاكم بفرمان شعبي
تولى محمد على حكم مصر تحقيقاً لرغبة الشعب المصري وزعمائه وعلمائه الذين أصدروا حكمهم بعزل الوالي العثماني خورشيد باشا وتعيين محمد على واليا على مصر بدلا منه عام 1805م ، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من النهضة أثرت تاريخها السياسي والحربي والاقتصادي والاجتماعي.
بعد أن استتب لمحمد على باشا الحكم تخلص أولا من الزعامة الشعبية المتمثلة بكبيرها عمر مكرم فعزله ونفاه إلى دمياط وقضي على أعدائه من المماليك فى مذبحة المماليك الشهيرة عام 1811م كما قام بإلغاء فرق الإنكشارية أو فرق الجنود العثمانية وكان قد تخلص من تهديد الإنجليز له بانتصاره عليهم في الحملة التي سيروها إلى فريزر 1807 .
استمر محمد علي في الحكم ثلاثا وأربعين سنة حيث عزله أبناؤه عام 1848م لأنه أصيب بالخرف. ومات بالاسكندرية في أغسطس عام 1849م ودفن بجامعه بالقلعة.
*باني النهضة
رغم الاختلافات في الرأي حول إصلاحات محمد علي إلا أن ثمة إجماعا أن محمد علي هو بان مصر الحديثة وإذا كانت إصلاحاته تصب كلها في تقوية الجيش وأنه سخر قدرات الشعب ومقدراته لخدمة غرض واحد هو صنع مجد شخصي وتكوين إمبراطورية مترامية الأطراف يحكمها هو وابناؤه إلا أن أثر هذه الاصطلاحات كان عظيما.
كانت أهم إنجازات محمد أنه جعل المصريين مشاركين في بناء نهضتهم، فلم يغلق أبواب مصر بل فتحها علي مصراعيها لكل وافد. وانفتح علي العالم ليجلب خبراته لتطوير مصر. ولأول مرة أصبح التعليم منهجيا. فأنشأ المدارس التقنية ليلتحق خريجوها بالجيش. وأوجد زراعات جديدة كالقطن وبني المصانع واعتنى بالري وشيد القناطر الخيرية علي النيل.
قام محمد علي بتشكيل جيش حديث جنوده من المصريين للدفاع عن بلادهم ولكي يحصل علي المال لتجهيز الجيش والأسطول شدد من سيطرته علي تجارة الواردات والصادرات وأسس نظام الاحتكار.
انشأ أول مدرسة حربية للمشاه عام 1820 م، وفيما بعد أصبح الجيش المصري يواكب أحدث النظم العسكرية فى العالم فى ذلك الوقت.
أيضا قام محمد على بوضع أولي لبنات التعليم الحديث فى مصر، فانشأ نظام التعليم الحديث في مراحله الابتدائية والتجهيزية والخصوصية كما نشر المدارس المختلفة لتعليم أبناء الشعب المصرى ومنها المدارس الحربية و مدارس الموسيقي العسكرية وغيرها من المدارس ، أيضا كان هناك العديد من المدارس الأخري مثل مدرسة الألسن ومدرسة الولادة ومدرسة الطب أو مدرسة القصر العيني ومدرسة الطب البيطري ومدرسة الزراعة وغيرهم من المدارس، كما عمد إلى إيفاد البعثات التعليمية إلى الخارج لعجز الأزهر علي توفير موظفين أكفاء في التجارة والصناعة والزراعة .
مجلس العدل في عهد محمد علي
كما اهتم بالصناعة التى أصبحت في عهده ثاني عماد للدولة بعد التعليم بكافة أشكالها وبخاصة الحربية لمواكبة الأنظمة التى كانت موجودة بأوروبا وحتى لا تعتمد مصر على جلب كافة احتياجاتها من الخارج، وهكذا تم إنشاء العديد من المصانع وكان أول مصنع حكومي بمصر هو مصنع الخرنفش للنسيج وكان ذلك عام 1816 م .
ثم بدأت تتوالي المصانع سواء الحربية أو غيرها الأمر الذى أدى بمحمد على إلى إتباع سياسة خاصة للنهوض بهذه المصانع بدأها أولا باستخدام الخبراء والصناع المهرة من الدول الأوروبية لتخريج كوادر مصرية من رؤساء وعمال وصناع وفنيين وإحلالهم محل الأجانب بالتدريج .
كذلك أولى محمد على الزراعة اهتماماً كبيراً فأقام مشروعات كبرى لتنظيم الرى والمياه كالقناطر الخيرية وترعة المحمودية التي أمدت الإسكندرية بمياه النيل.. وأدخل المحاصيل النقدية إلى مصر خاصة محصول القطن, وكذلك بعض المنتجات الأخرى المستخدمة فى الصناعة.
اهتم بالنهوض بمصر فى كافة المجالات الأخرى وبخاصة فى العمارة التى تميزت بطرز جديدة وافدة على مصر كان أغلبها أوروبى نظرا لاستقدام محمد على للعديد من المهندسين والعمال الأجانب لبناء العديد من العمائر سواء الدينية أو المدنية أو الحربية.
تميز عصر محمد على باشا بالنهضة فى التنظيم والهندسة فى العمارة ممثلة فى أنه أصبح يوجد لائحة للتنظيم حيث فتحت الحارات والدروب وسهل المرور بها، وأصبح الناس بمصر يتبعون فى مبانيهم الطرز المعمارية الحديثة .
*طموحاته التوسعية
حارب محمد علي الحجازيين والنجديين وضمهما لحكمه عام 1818. واتجه لمحاربة السودانيين عام 1820 والقضاء علي فلول المماليك بالنوبة و ساعد السلطان العثمانى في القضاء على الثورة في اليونان فيما يعرف بحرب "المورة" إلا أن وقوف الدول الأوروبية إلى جانب الثوار في اليونان أدى إلى تحطم الأسطول المصري.
عقد محمد على اتفاقية لوقف القتال مما أغضب السلطان العثمانى و كان محمد على قد انصاع لأمره، ودخل هذه الحرب أملا في أن يعطيه السلطان العثمانى بلاد الشام مكافأة له إلا أن السلطان العثمانى خيب آماله بإعطائه جزيرة كريت والتى رآها محمد على تعويضا ضئيلا بالنسبة لخسارته في حرب المورة.
كرسي العرش الخاص بمحمد على
عرض محمد على على السلطان العثمانى إعطاءه حكم الشام مقابل دفعه لمبلغ من المال إلا أن السلطان رفض لمعرفته بطموحات محمد على و خطورته على حكمه و استغل محمد على ظاهرة فرار الفلاحين المصريين إلى الشام هرباً من الضرائب و طلب من أحمد باشا الجزار والى عكا إعادة الهاربين إليه و حين رفض والى عكا إعادتهم باعتبارهم رعايا للدولة العثمانية و من حقهم الذهاب إلى أى مكان استغل محمد على ذلك وقام بمهاجمة عكا و تمكن من فتحها واستولي علي الشام وانتصر علي العثمانيين عام 1833 وكاد أن يستولي علي الآستانة العاصمة إلا أن روسيا وبريطانيا وفرنسا حموا السلطان العثماني وانسحب عنوة ولم يبقى معه سوي سوريا وجزيرة كريت وفي سنة 1839 حارب السلطان لكنهم أجبروه علي التراجع في مؤتمر لندن عام 1840 بعد تحطيم إسطوله في نفارين.
وفرضوا عليه تحديد أعداد الجيش والاقتصار علي حكم مصر لتكون حكما ذاتيا يتولاه من بعده أكبر أولاده سنا.
*أخطائه بحق المصريين
تم نقده كثيرا ورأى فيه الكثير انه ميكيافيللي آخر وأطلق عليه كثيرون "ابن الدخاخني" وهو مصطلح يشير إلى أنه ابن تاجر الدخان والطباق لأن آباء محمد علي، وهم من أصل ألباني، كانوا يشتغلون بهذه التجارة، وصارت السخرية منه ومن أحفاده، وتخوينهم في كثير من الأحيان، جزءاً من الخطاب الوطني في وسائل الإعلام.
وشاعت مقولة "محمد علي صنع من مصر دولة كبيرة، لكنه جعل من المصريين شعباً صغيراً"، خصوصاً وأن علاقته القائمة على القوة والحزم مع المصريين كانت كفيلة بترسيخ هذه المقولة في الأذهان.
نجد مثلاً أن المؤرخ عبد الوهاب بكر، أستاذ تاريخ العصور الحديثة بجامعة القاهرة، يؤكد في بحث له عن "الجندية والمواطنة في عصر محمد علي" أن محمد علي لجأ إلى تجنيد الشعب المصري، الفلاح المصري على وجه الخصوص، بعدما فشل في مشروع تجنيد أهالي السودان، وأن ذلك كان مرتبطاً بمجده الشخصي وتأكيد شهرته.
ويؤكد بكر أن محمد علي لم يثق بقدرات هذا الشعب، الذي تولى أمره عام 1805. لذلك حرص كل الحرص ألا يدع الفرصة للارتقاء إلى مناصب جيشه الجديد أو تولي مراتب قيادية. واستند بكر إلى ما قاله الطبيب الفرنسي الذي أوكل له محمد علي تأسس كلية الطب المصرية (كلوت بك)، من أن "المصريين في المراتب العالية لا يقدّرون كرامة مراكزهم الجديدة، وسرعان ما يتحولون إلى عاداتهم القديمة"، فكف محمد علي ـ وابنه إبراهيم باشا الفاتح ـ عن ترقيتهم!!
وعلى العكس يرى المؤرخ رؤوف عباس أن محمد علي نجح في تحويل مصر من الهامش إلى القلب، وأثبت عملياً أن مصر قادرة بمواردها وقدراتها البشرية على امتلاك مفاتيح القوة بمفهومها العصري.
ويذكر عباس أن الجيش المصري استطاع بجنوده الفلاحين أن يعيد لمصر في سنوات قليلة دورها الإقليمي المفقود، بل حققت مصر في عهد محمد علي تنمية اقتصادية متراكمة بشكل ملحوظ، من دون استدانة من الخارج، ما جعل الاقتصاد المصري يحقق فائضا في نهاية عصره.
ويروي الأديب المصري الكبير يوسف القعيد في حلقة له ببرنامج "الطبعة الأولي" الذي يقدمه الإعلامي أحمد المسلماني أن جلسة جمعته مع سفيرألبانيا في القاهرة وكان رأي السفير أنه محمد علي رجل استعماري.
ويضيف القعيد:هناك كتاب لدكتور زوقان قرقوط يقارن فيه بين جمال عبد الناصر ومحمد على حاول أن يثبت فيه أن محمد على فعل كل هذا ليؤسس الحكم الفردي وحكم عائلته من بعده وتأسيس إمبراطورية علوية خاصة به وأن يضمن أن يرث الحكم من بعده أبناؤه!.
مقدمه من الامبراطور
