جمال عبد الناصر كان قريبا من تطلعات الجماهير وعرف عنه تصديه الذي لا هوادة فيه للمخططات الاستعمارية، حيث اعتمدت ثورة يوليو خلال سنواتها التي قاربت عشرين عاما سياسة عدم الانحياز لأي من القوى الكبرى ورفضت الارتباط بأية أحلاف عسكرية أو سياسية من شأنها أن تقيد مصر ، أو تنزع عنها إرادتها المستقلة ، كما وضعت مفهوما جديدا للهوية الوطنية، فمصر تنتمي إلى دوائر افريقية وإسلامية ومتوسطية، لكنها بالأساس ذات هوية عربية وتنتمي إلى أمة ذات ثقافة واحدة وحضارة مشتركة .
رحيل ناصر شكل صدمة للمصريين والعرب
تلك الهوية العربية جعلت مواجهة التحدي الصهيوني على رأس أولويات الثورة ، أما الآن وللأسف ، فقد انحرفت الدول العربية بعيدا عن هذا الهدف وتسابقت بعضها في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني والارتماء في أحضان الولايات المتحدة كما ظهرت شعارات وأطروحات سياسية ذات صبغة قطرية ضيقة تعتمد الحل أو "الخلاص الفردي" ، ما أضاع الكثير والكثير من الحقوق العربية .
فمنذ رحيل عبد الناصر وتراجع مشروعه العروبي القومي والنكبات تتوالى على الأمة كاحتلال العراق وتمزيق الصومال ولبنان والسودان وتصفية القضية الفلسطينية التي تبنتها الثورة كقضية العرب الأولى .
دروس ما بعد النكسة
وأمام هذا التردي في الواقع العربي ، لا مفر من استرجاع دروس تجربة ثورة يوليو بعد هزيمة يونيو 1967 للحفاظ على القليل المتبقي من حقوقنا وكرامتنا أمام الأطماع الأمريكية والصهيونية ، ومن أبرز تلك الدروس أن عبد الناصر سارع فور وقوع النكسة إلى إطلاق مقولة "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها "ويبدو أنه لا بديل الآن أمام العرب سوى التمسك بتلك المقولة بعد أن جلب الضعف والاستكانة والثقة في الوعود الأمريكية بإحلال السلام المزيد والمزيد من الخراب على العالم العربي .
أيضا الثورة كانت قد وضعت منهجاً واضحاً لمواجهة تداعيات هزيمة 1967 يقوم على تصحيح الأخطاء وذلك عبر بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضد العدو الصهيوني وإعداد الوطن عسكرياً واقتصادياً بشكل يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدو ، إلى جانب وضع أهداف سياسية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكل الجبهات العربية مع إسرائيل .
جمال عبد الناصر مازال الزعيم الملهم
وأخيرا ، دعا عبد الناصر بعد النكسة إلى مجتمع سياسي مفتوح ودولة المؤسسات والقانون والقضاء على مراكز القوى داخل النظام ومحاورة الشباب ، وفي ظل تلك السياسة الجديدة ، بدأت حرب الاستنزاف التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم ، ما يؤكد أن استرجاع الحقوق العربية المغتصبة هو أمر غير مستحيل شرط توفر الإرادة والوحدة .
وتبقى هناك نقطة محل إجماع بين كثير من المراقبين ألا وهى أن ثورة يوليو ومبادئها مازالت تصلح حلا لكل المشاكل التي تعيشها مصر في الوقت الراهن ، كما أنها مازالت ـ وستظل ـ في ضمير ليس الشعب المصري فحسب ، ولكن في ضمير كل الشعوب الساعية إلى الحرية والتحرر من أي شكل استعماري ، والساعية إلى تحقيق عدالة اجتماعية تحترم الإنسان ، الذي يعد هو الركيزة الأساسية لأي نظام حكم يسعى إلى الشرعية الحقيقية من خلال شعبه.